هل تسقط الجزية اليوم عن نصارى مصر ؟؟؟؟؟؟


۞ هل تسقط الجزية اليوم عن نصارى مصر ؟؟؟؟؟؟

بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على محمد وآله وصحبه .
وبعد .

۩ فبينما كنت أتناول أحكام أهل الذمة في الإسلام في سلسلة خطب منبرية تصحيحاً لكثير من الأغاليط التي روجها الجهلة ودعاة الفضائيات على حدٍ سواء ، إذ وقع تحت يدي بحث عن " الجزية في ظل الدول الإسلامية اليوم " لمؤلفه الدكتور / حمزة عبد الكريم حماد ، حيث عرض فيه مؤلفه هذه المسألة وذكر آراء المعاصرين الذين تكلموا في هذه القضية ووقف على أقوالهم ومنهم مصطفى السباعي ، وعبد الكريم زيدان ، ويوسف القرضاوي ، ووهبة الزحيلي ، ومحمد سليم العوا ، وزكريا بيومي ، وفهمي هويدي ، وغيرهم .
وقد اتفق هؤلاء جميعاً على سقوط الجزية في هذا العصر عن أهل الذمة ، ثم اختلفوا في تعليل ذلك :

۩1- فمنهم من علل ذلك بأن الجزية لا تفرض إلا على من قاتل ، أما المواطنون من غير السلميين ممن لم يحاربوا الدولة فلا تفرض عليهم ، ومبنى ذلك على أن القتال لا يشرع في الإسلام إلا للدفع فقط فنقاتل من قاتلنا بدليل قوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ... ﴾ الآية .

۩2- ومنهم من علل ذلك بالنظر إلى أن الجزية إنما شرعت في الإسلام بدل الدفاع عنهم والحماية لهم .
وفي العصر الحديث يشترك الذميون في الدفاع عن الوطن مع المسلمين فتسقط الجزية عنهم أو يمنع وجوبها أصلاً ، ويستدل صاحب هذا القول بمجموعة من الأحداث التاريخية .
وقد يعبر بعضهم عن الجزية بأنها بدل مالي عن الخدمة العسكرية المفروضة على المسلمين .

۩3- ومنهم من علل ذلك بأن الدول الإسلامية تعرضت للاحتلال الأجنبي ؛ وعجز المسلمون عن حماية أنفسهم فضلاً عن ذمتهم وهذا مسقطٌ للجزية !

۩4- ومنهم من ردَّ ذلك إلى حقوق المواطنة ؛ فالنصراني له نفس حقوق أخيه المسلم ( لهم ما لنا وعليهم ما علينا ) ! فكيف تجبى منه الجزية ؟!

۩5- ومنهم من رأى أن ( عقد الذمة ) انتهى بذهاب الدولة التي أبرمته ، فالدولة الإسلامية القائمة اليوم في أي قطر ليست خلفاً للدولة الإسلامية الأولى التي أبرمت عقد الذمة .

۩6- ومنهم من ذهب إلى أن السيادة في الدولة القومية الحديثة تقوم على مشاركةٍ حقيقيةٍ من جميع الأطراف ، فالمسألة لا ينظر لها في كتب الفقهاء القدامى فهي من المستجدات التي لا تخضع للتراث الفقهي القديم ، وبالتالي فلا مجـال للحديث عن الجزية !

۩7- ومنهم من رأى ذلك مخالفاً للنظام الدولي في العصر الحاضر عندما تنتصر دولة على دولة ومخالف أيضاً لحقوق الإنسان !

۩8- وخشي البعض من معاملة الدول الأجنبية المسلمين المقيمين بها بالمِثل أو بإجراءات انتقامية تعسفية إذا نحن فرضنا الجزية على أبناء ملتهم .

۩ هذا ملخص شبهات هؤلاء وغيرهم ممن يتبنى مذهب ( العصرانية ) لتقريب الإسلام للغرب , وتطويع الشريعة بما يتلائم مع العالم المتمدن .

۩ وللرد على هذه الشبهات التي أحدثها هؤلاء , وخرجوا عن الصراط المستقيم , وخرقوا إجماع السلف , بعد مخالفتهم للكتاب والسنة , لا أجدني في حاجة إلى ذكر النصوص الشرعية الدالة على فرضية الجزية على أهل الذمة , فهي معروفة ومشهورة , ولا ينكرها أحد من الأمة - بحمد الله تعالى - فما بقي إلا الإجابة على هذه الشبهات . فأقول وبالله أستعين ومنه أستمد التوفيق والسداد :

۞ الجواب عن الشبهة الأولى :
ومبناها على أن الجهاد ليس إلا جهاد الدفع ، وليس هناك جهاد طلب أصلا وإذا سقط جهاد هؤلاء وقتالهم لم يعد لمطالبتهم بالجزية من سبيل , فهذا القول يبطله القرآن والسنة : قال تعالى : ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ وقال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ﴾ وقال تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً ﴾ وقال تعالى : ﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ﴾ .
وقال - صلى الله عليه وسلم -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم .. "
وغير ذلك الكثير والكثير من النصوص الدالة على وجوب الدعوة إلى الله بالكتاب الهادي والسيف الناصر , بالحجة والبرهان والسيف والسنان , وعلى هذا مضى السلف الكرام من الصحابة والتابعين لهم بإحسان , وهو ما عرف في التاريخ الإسلامي "بالفتوحات الإسلامية" فهل عمي أولئك المخذولون عن ذلك !
أما قوله تعالى ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾ فهذه مرحلة من مراحل تشريع الجهاد الذي مر بمراحل
أربع , وهي :
۩ المرحلة الأولى : مرحلة المنع ، وفيها قال تعالى : ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ ﴾
الثانية : الإذن في قتال من قاتلنا , وفيها قال تعالى : ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُـمْ ظُلِمُوا ﴾ .
الثالثة : وجوب قتال من قاتلنا ، قال تعالى : ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾
الرابعة : وجوب قتال المشركين كافة , وفيها قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾ وفيها سورة براءة وغيرها.
وقد قال بعض أهل العلم إن المرحلة الأخيرة نسخت ما قبلها , لكن الصواب ما قرره شيخ الإسلام – رحمه الله – من أن أحكام هذه المراحل باقية كما هي , وأنها تختلف من زمن لآخر ومن شخص لآخر , بحسب القوة والضعف , فمن كان بمكان هو فيه مستضعف , أو في زمن هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عن الذين لا يرجون أيام الله . ومن كان قوياً فليعمل بآية السيف . وهكذا ، وهذا هو القول , وفيه إعمال لجميع النصوص , وجمع بينها بلا إشكال , ولم يثبت عن أحد من السلف ما يخالفه ؛ فإذا كان الأمر كذلك ؛ فلينظر إلى الواقع وما يلائمه من هذه المراحل فيعمل به دون دعوى النسخ .
فدعوى هذا القائل بأن الجزية لا تكون إلا على من قاتلنا , وأن القتال لا يشرع أصلاً إلامع من قاتلنا , وهؤلاء لم يقاتلونا
إذن لا يشرع قتالهم بأي حال من الأحوال ولو كان من أجل دعوتهم إلى الإسلام ,إذن تسقط الجزية عنهم-كلام باطل ,لأنه مبني على باطل لوجوه منها :
1-أن القتال يشرع لتكون كلمة الله هي العليا وليس في حالة الدفع فحسب .
2-أن آباء هؤلاء الذميين قاتلوا جيوش المسلمين – أي نصارى مصر- في زمن الفتح الإسلامي , فمصر فتحت عنوة كما هو معلوم , والأبناء لهم حكم الاباء في ذلك لأنهم على سيرتهم , وقد رضوا بأفعالهم .
هذا , وقد خاطب القرآن الكريم اليهود الذين عاصروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بجرائم آبائهم , وهذا من نفس الباب ,قال تعالى ﴿ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ ﴾ فكيف يقال بأن هؤلاء لم يقاتلونا ؟!
3-ونقول : هل كان من دفع الجزية من زمن خلفاء بني أمية وبعدهم بني العباس ...وإلى آخر دولة إسلامية كانت تجبي الجزية ؟ هل كل أولئك قاتلوا المسلمين وصدوا جيوشهم الفاتحة لذا كانوا يدفعون الجزية ؟! وهذا إجماع .
4-ونقول وكيف تسقط الجزية وتلغى قبل نزول عيسى بن مريم عليه السلام اخر الزمان ؟ ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله :" ليوشكن أن ينزل فيكم بن مريم حكماً مقسطاً ,وإماما عدلا فيكسر الصليب , ويقتل الخنزير, ويضع الجزية , ويفيض المال حتى لا يقبله أحد " ففيه إشارة واضحة إلى بقاء حكم الجزية إلى أن ينسخها الله في زمن عيسى عليه السلام , لا قبل ذلك , فتنبه ولا تكن غافلاً . والله تعالى أعلم .

۞ الجواب عن الشبهة الثانية :
( وهي أن الجزية شرعت بدل الدفاع عنهم والحماية لهم فهي بمثابة بدل ماليٍٍعن الخدمة العسكرية المفروضة على المسلمين .)
فأقول : هذه دعوى ,مقابلة بمثلها ,وهي أن الجزية إنما شرعت حقناً لدمائهم , أو عقوبة على كفرهم , أو بدل سكنى دار الإسلام ,أو إذلاً لهم وصغارا حتى يتوبوا إلى الله من كفرهم أو غير ذلك,وقد يكون السبب مجموع ذلك أوبعضه فكيف نفترض علةً وحيدة ,ليس عليها دليل منصوص ولا وقع عليها الإجماع ,ثم نلغي الحكم الثابت بالكتاب والسنةوالإجماع لمجرد تخلف تلك العلة ,التي قد لا تكون مرادة أصلاًأو تكون بعض العلة المركبة على أحسن تقدير ؟!
وهل يقبل مسلم أن يكون هذا الأمرُ الذي هو رمزٌ لعزةِ الإسلام وعلوِ المؤمنين , وإذلال الشرك والمشركين , وصغار في رقابهم إلى يوم الدين , ووسيلة إلى هدايتهم , بالتضييق عليهم , حتى يؤمنوا بالله وحده , كيف يقبل مسلم أن يعتقد هذا الأمر الجلل لأنه مجرد ضريبة مالية بدلاً من الخدمة العسكرية , يدفعها النصراني بعزة وأنفة لمن يخدمونه ويحمونه ، فإذا لم يسترح لهذه الخدمة ولم يطمئن لهذه الحماية رأى أن يمتنع عن هذه الضريبة ويباشر بنفسه البطولة والذود عن حياض المسلمين والذميين ، يعني ضريبة مالية إن شاء أعطاها وإن شاء قام بنفسه بأعمال البطولة والقتال وهذا المذهب لا أراه صدر إلا عن غفلة من قائله وبُعْد عهده بقوله تعالى ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ﴾ !!! ثم هل يجوز أن يستعان بالكافر أصلاً في القتال ؟
" عن عائشة أن رسول الله خرج إلى بدر فتبعه رجل من المشركين فلحقه عند الحرة فقال : إني أردت أن أتبعك وأصيب معك . قال : تؤمن بالله ورسوله ؟ قال : لا . قال : ارجع فلن أستعين بمشرك " رواه مسلم .
وعن خبيب بن عبد الرحمن عن أبيه عن جده قال : أتيت رسول الله وهو يريد غزواً أنا ورجل من قومي ولم نسلم فقلنا : إنا نستحيي أن يشهد قومنا مشهداً لا نشهده معهم فقال : أسلمتما ؟ فقلنا : لا . قال : فإنا لا نستعين بالمشركين على المشركين " صحيح رواه الحاكم .
فإن قيل : إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – استعان برجل كافر خزاعي عيناً له على الكافرين في الحديبية .
قلنا : الأصل عدم الاستعانة ، لما تقرر في الأحاديث القولية العامة السابقة ، وكأن الجملة تعليلية " إنا لا نستعين بمشرك " فسبب إرجاعنا لك لأننا لا نستعين بمشرك وهذا لا ينافي ما ذكره بعض أهل العلم من أن النبي – صلى الله عليه وسلم – طمع في إسلامه ، وفعلاً أسلم الرجل ، لكن اللفظ أعم من ذلك فهو لم يقل له مثلاً : ارجع فلن نستعين بك لشركك ! وإنما قال ( بمشرك )!
فدل على العموم ، والعبرة – كما هو مقرر في الأصول – بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
ولكن العموم إنما يعتبر في نظير المذكور لا فيما يخالفه ، فإذا لم يكن ثمة حاجة إلى الاستعانة بأحد المشركين فلا يجوز ذلك وإن دعت الحاجة – كما في ذلك العين الخزاعي الذي يستطيع أن يداخل الكافرين ويصل لما لا يصل إليه مسلم – أو الضرورة لضعف في المسلمين أو قلة في عددهم ونحو ذلك من المصالح التي يراها الإمام فلا حرج من الاستعانة ببعض هؤلاء ، ولكن شتان شتان بين هذه الصورة الطارئة القليلة بضوابطها وبين أن يسمح لأهل الذمة أن يلتحقوا بقواتنا المسلحة وينتظموا في جيوش المسلمين لينالوا أعلى التدريبات القتالية ويترقوا في الرتب العسكرية وتكون لهم الولايات على من تحتهم من المسلمين فمنهم العريف والرقيب والمساعد والضابط و.. و .. إلخ
وهب أن الأمر تم على ذلك ، وعلى سبيل التنزل فهل يُعَدُّ ذلك مسقطاً للجزية عنهم ؟! اللهم : لا !
وهب أنه – وعلى سبيل التنزل – أسقط جزية سنة ، فهل يسقط الجزية كل سنة ، حتى بعد الانتهاء من الخدمة العسكرية ؟
وهب أنه – وعلى سبيل التنزل – أسقط الجزية عمن التحق منهم بالجيش فهل يعم ذلك كل ذكر بالغ عاقل من أهل الذمة ؟
فإن قيل : إن أبا عبيدة بن الجراح لما فتح أنطاكية ولى عليها ( حبيب بن مسلمة ) الفهري فغزا الجُرجُومة فلم يقاتله أهلها ولكنهم طلبوا الأمان والصلح فصالحوه على أن يكونوا أعواناً للمسلمين وعيوناً ومسالح في جبل اللكام وأن لا يؤدوا الجزية ، ودخل من كان في مدينتهم في هذا الصلح ، كما في فتوح البلدان للبلاذري .
فالجواب : أن هذا على سبيل الصلح ، ولم تفتح عنوة كما هو الشأن في الجزية العَنْوية فافترقتا .

۞ الجواب عن الشبهة الثالثة
وهي أن الدول الإسلامية تعرضت للاحتلال فلم تعد قادرة على حماية نفسها فضلاً عن ذمتها ، وهذا مسقط للجزية .
قلت : إن الأمة الإسلامية تضعف ولكنها لا تموت وقد ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أنه لا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، وأخبر أنه دعا ربه – عز وجل – أن لا يسلط على أمته من يستبيح بيضتها فأجابه ربه أن لا يسلط عليهم عدواً من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها فالأمة تضعف وتمرض ولكنها لا تموت ولا تزول بالكلية ، فإذا ضعفت الأمة لم تأخذ الجزية فإذا عادت إلى قوتها وزال عنها ضعفها ووهنها عاد الأمر إلى ما كان عليه ، وأما الدعوى بأن ذلك مسقط للجزية إلى يوم القيامة مهما قويت الدولة الإسلامية ، فعارية من البرهان ، موغلة في البطلان .
۩ لكن لقائل أن يقول : إن الاحتلال – لمصر – مثلاً أزال الدولة الإسلامية فيها ، وبقيت تحت سيطرة الفرنسيين تارة والإنجليز تارة أخرى فإذا تحرر المسلمون بعد ذلك وأخرجوا عدوهم من بلادهم كان لهم مع ذمتهم حكم جديد مستأنف ، وهـذا الحكم قد يكون عن طريق الصلح ، ومعلوم أنه في حالة الصلح فإنه يصح ترك الجزية صلحاً .
فأقول : هذا الكلام وإن كان له حظ من النظر بادئ الرأي لكنه عند التأمل يظهر أنه غلط ويلزمه لِتَنْبَني الثمرة على المقدمة أن تكون المقدمة : أن تصير مصراً – مثلاً – دار كفر ! لما حكمها الأجانب فإذا صارت دار كفر وحرب .
قلنا بزوال دولة الإسلام عنها ، ومن ثم يحتاج الأمر إلى فتح جديد حتى ترجع الأحكام السابقة من الجزية وغيرها .
۩ الحق أقول – إن شاء الله – أن هذا الاحتلال أو ذاك لم يخرج الدار من كونها دار إسلام إلى دار كفر ، وذلك لأن شعائر الإسلام الكبرى لم تزل ظاهرة كالجمع والأعياد والأذان والحج، ولم يعرف أنهم أظهروا شعائر كفرهم وحملوا الناس على دينهم بل كانوا يعاملون المسلمين والنصارى من المصريين على حد سواء ولو فيما يبدو للناس ، بل كانوا يتوددون للمسلمين ويشهدون معهم احتفالاتهم البدعية ، ويظهرون احترامهم لدينهم ، بل منهم من أظهر إسلامه ، فالقول والحالة هذه بأن البلاد في ذلك الوقت دار كفر لمجرد غلبة الكفار عليها بعساكرهم مجازفة بعيدة عن الصواب . لكن يشكل على ذلك أن القوانين المطبقة في البلاد هي " القوانين الوضعية " وليست الشرعية الإسلامية مما لا يجعلها دار إسلام خالصة ، أقول : وكذلك لا ينقلها إلى دار كفر محض ، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يثبت خلافه ، ولا شك أن شعائر الإسلام في البلاد في ذلك الوقت كانت أظهر من شعائر الكفر ، فالدار دار إسلام قطعاً والله أعلم .
وإذن فمراحل الاحتلال مراحل ضعف للدولة الإسلامية وليست مراحل زوال لها بالكلية ، فإن عادت وقويت عادت إليها أحكامها ، وأنا لا أنكر أن الضعف ما زال موجوداً للآن وإلى ما شاء الله ، لكن الكلام على ما إذا قويت بحيث تكون قادرة على المطالبة لذمتها بالجزية عن يد وهم صاغرون ، وإلا فللضرورة أحكامها ، والله أعلم .

۞ الجواب عن الشبهة الرابعة :
وهي اعتبار حقوق المواطنة التي تقتضي المساواة بين الأفراد في الحقوق والواجبات .
فتلك دعوة جاهلية وما هي إلا إفرازات من إفرازات العلمانية الغربية كالقومية والديمقراطية وغيرها ، أما في الإسلام فالأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، ويسلط رسله وأتباعهم على من يشاء .
أما أن يكون ( لهم ما لنا ، وعليهم ما علينا ) فهذا لا يعرفه الإسلام وإنما صح عنه – صلى الله عليه وسلم – أنه أخبر أنهم : إن أسلموا فلهم مالنا وعليهم ما علينا .
حيث قال :" أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وأن يستقبلوا قبلتنا ويأكلوا ذبيحتنا وأن يصلوا صلاتنا فإذا فعلوا ذلك فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين " صحيح – الصحيحة رقم ( 303 ) .
قال الألباني – رحمه الله – ( فيه دليل على بطلان الحديث الشائع على ألسنة الخطباء والكتاب : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في أهل الذمة : لهم ما لنا وعليهم ما علينا . وهذا مما لا أصل له عنه - صلى الله عليه وسلم – . انظر الضعيفة رقم 1103) اهـ .
ثم ذكر له شاهداً :
( من أسلم من أهل الكتاب ؛ فله أجره مرتين وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا ومن أسلم من المشركين فله أجره وله مثل الذي لنا وعليه مثل الذي علينا ) وحسنه رحمه الله .
أما الأخوة بين مسلم وكافر فلا تكون إلا أخوة النسب فحسب . قال تعالى ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ﴾ وقال رسوله " المسلم أخو المسلم " .
وأما الأخوة الإنسانية والأخوة الوطنية فأمرٌ دُبِّر في المحافل الماسونية ومؤتمرات التقارب والأخوة بين الأديان ، وهذا كفر بالواحد الديان .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ .

۞ الجواب عن الشبهة الخامسة :
وهي أن عقد الذمة قد انتهى بذهاب الدولة التي أبرمته . وهذه الشبهة قد سبق الجواب عنها في الجواب عن الشبهة الرابعة ، وذلك أن الدولة الإسلامية لا تزول بالكلية وإنما تضعف أحياناً وتقوى أحياناً ، فإذا زالت بالكلية من موضع " ما " فنعم ، إذن في هذا الموضع دون غيره كما هو الحال في " الأندلس " فهي تحتاج لفتح جديد لاستعادة الأحكام السابقة .
ثم هاهنا أمر يحتاج للتنبيه عليه ألا وهو أن الدول الإسلامية المتعاقبة والخلافات المتتالية هل تحتاج إلى إعادة النظر في كل العقود التي أبرمتها الدولة السابقة ؟ وبتعبير آخر لو أن الدولة الأموية أبرمت صلحاً أو عقداً أو معاهدة ثم جاءت الدولة العباسية بعدها فهل الأخيرة لا تكون مطالبة شرعاً بإنفاذ معاهدات وعقود الدولة التي سبقتها فيما يتعلق بالدول المجاورة أو الذمة التي تعيش على أرضها ، وهل سمع أحد أو قرأ أن الدولة الأموية جددت عقد الذمة مع نصارى مصر بعد انتهاء دولة الراشدين ، وهل جاء العباسيون بعدهم فجددوا العقد أيضاً وكذلك دولة العثمانيين والمماليك ، ونحن لا نحتج بوقائع تاريخية ولكن لأن أحداً من العلماء لم ينكر ذلك على مرور الأزمان وتعاقب الدول وهذا إجماع ومستنده قوله – صلى الله عليه وسلم – " المؤمنون يدٌ على من سواهم ويسعى بذمتهم أدناهم " .
فقول القائل أن الدولة الإسلامية اليوم ليست خلفاً للدولة الإسلامية الأولى ليس صواباً على الإطلاق ، وإنما قد يكون له وجه في مثل " الأندلس " ونحوها والله تعالى أعلم .

۞ الجواب عن الشبهة السادسة :
( وهي أن السيادة في الدولة القومية الحديثة تقوم على مشاركة حقيقة من جميع الأطراف فالمسألة لا نظير لها بل هي من النوازل )
وهي الشبهة في الحقيقة ذكرتني بما قاله الحويني ن مظاهرات مصر التي نتج عنها خلع رئيس البلاد – وقد تأخرت كلمته عن ذروة الأحداث ، فسكت دهراً ونطق هجراً ، وزعم أن هذه المسألة لا نظير لها في الواقع المعاصر ، ولم يجد لها حكماً شرعياً إلا أنها فتنة ، وهو قد اعتزل هذه الفتنة وإن كان لا ينكر على من تولى كبرها – وليس موضعنا الرد عليه – والشاهد من ذلك أن الخروج على الحكام المسلمين لو تغيرت صورته عند بعض الناس فاستوردت أشكالاً غربية حديثة في إزالة الحكومات ولو كانت مسلمة " كالمظاهرات المليونية " والاعتصامات والإضرابات والعصيان المدني وسمي الخروج بغير اسمه لقيل : هذه نازلة ! لا علاقة لها بالخروج القديم المذكور في كتب العلماء القدامى !! ونصت عليه الأحاديث النبوية . وكذلك هاهنا ، مع انتشار التغريب والعلمانية والقومية والوطنية والغزو الفكري بأشكاله وظهرت ثمرة الدعوة إلى زمالة الأديان والأخوة بين الأديان والتقريب بين الأديان وظهرت حقوق المواطنة فإذا تحدث الناس عن الجزية وأحكام أهل الذمة رأوا ذلك لا نظير له في أنظمتهم ولا حكم له عندهم ، فالأمر عندهم غريب مريب عجيب . ﴿ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ .

۞ الجواب عن الشبهة السابعة :
وهي أن نظام الجزية مخالف للأعراف الدولية عندما تنتصر دولة على دولة .
والجواب : أن الشريعة الإسلامية شريعة ربانية المصدر ، معصومة الأحكام ، اشتملت على كل خير ونفع ومصلحة ، فالذي شرعها هو العليم الخبير ، الذي يعلم مصلحة خلقه ، الذي يعلم السر في السماوات والأرض – تبارك وتعالى ، وهي شريعة حاكمة غير محكومة ملزمة لا اختيار معها ، وهي لا تسوي بين المؤمنين والكافرين ﴿ لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴾ ﴿ أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ﴾ .
وهذه المنظمات الدولية إنما شرعها كفار أنجاس ، فهل من المعقول أنهم يرضون بدفع جزية للمسلمين إذا فتحوا بلادهم ؟
هل ينتظر ذلك منهم عاقل ؟
۩ وهل يُنتظر منهم أن ينصوا عليه في دساتيرهم ومواثيقهم الدولية ؟ ما هذا ؟!
لكننا نقول : إذا كان الأمر مباحاً أو للإمام فيه مندوحة من اختيار أو نحوه أو كان فيه مصلحة فلا بأس بمراعاة ذلك أما أن ينسخ الشرائع ، ويحرم الحلال ، أو يسقط حكماً شرعياً فلا يجوز له ذلك .
والجزية حكم شرعي ثابت بالكتاب والسنة والإجماع ولا ينسخ إلا إذا نزل عيسى عليه السلام آخر الزمان ، فلا عبرة إذن بتلك الأعراف الدولية والمواثيق الأممية ، لكن – كما ذكرنا ذلك مراراً – إذا عجزت الدولة عن ذلك أو ترتيب مفسدة أكبر شرع السكوت عن المطالبة بالجزية حتى تتحقق القدرة التي هي مناط كل تكليف . مع مواصلة الإعداد والاستعداد لتطبيق جميع الشريعة ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ ﴾ . والله أعلم .

۞ الجواب عن الشبهة الثامنة :
وهي خشية أن تقوم الدول الأجنبية بإجراءات تعسفية انتقامية على الجاليات الإسلامية عندهم إذا نحن فرضنا الجزية على أهل الذمة عندنا .
وأقول :
۩ أولاً : لا زال أهل الباطل متعسفين ، ولن يزالوا كذلك ، قال تعالى ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ وقال تعالى ﴿ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ﴾ وقال تعالى ﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ ﴾ إلى آخر الآيات التي بهذا المعنى . فما يوم المسلمين منهم بواحد !
۩ ثانياً : أنهم فعلاً – يجبون منهم العشور والمكوس والضرائب تحت مسميات شتى ، فإذا زادت شيئاً يسيراً فليس ذلك بجديد عليهم .
ثالثاً : أن هذا المسلم قد نُهي عن الإقامة في دولة الكافرين وأمر بالهجرة إلى ديار الإسلام ولا يشفع له ؛ طلب الرزق ولقمة العيش ، قال تعالى ﴿ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ ﴾ ! وقال – صلى الله عليه وسلم – أنا بريء من المسلم يعيش بين ظهراني المشركين لا تراءى ناراهما " فكم من أولئك الذين سكنوا ديار الكافرين وهم مسلمون ، فتربى أبناؤهم في مدارسهم واختلطت بناتهم مع مجتمعاتهم ، حتى فقد السيطرة على أسرته ولم يعد انتماؤها للإسلام إلا بالاسم فقط فتدم بعد فوات الأوان ، فمثل هذا وقد أضرَّ بنفسه وأسرته ، لا ينبغي أن يراعى بحيث يضر بأحكام الإسلام على أرض الإسلام بل إن كان قادراً على إظهار شعائر دينه ولم يترتب مفسدة ودعت لذلك ضرورة فلا حرج عليه ، وإن عجز عن تحقيق ذلك فالواجب عليه الهجرة إلى ديار الإسلام وما عدا ذلك ؛ فهو الذي أضرَّ بنفسه وجنى عليها .
وبالله التوفيق ، والله أعلم ، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً .
.............................................
۞ كتبه فضيلة الشيخ/ أبو طارق محمود بن محفوظ
السبت : 27 / جماد أول / 1432..
http://mahfoouz.com/play-831.html ).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
#abou゚moaz
شاركه على جوجل بلس

عن الكاتب العلوم الشرعية

    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيس بوك

0 التعليقات:

إرسال تعليق